فصل: فروع تتعلق بهذه المسألة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ الذي عليه أهل التاريخ والأخبار ـ والله تعالى أعلم ـ أن قتل ابن ملجم كان قصاصًا لقتله عليًا رضي الله عنه‏.‏ لا لكفر ولا حرابة‏.‏ وعلي رضي الله عنه لم يحكم بكفر الخوارج‏.‏ ولما سئل عنهم قال‏:‏ من الكفر فروا‏.‏ فقد ذكر المؤرخون أن عليًا رضي الله عنه أمرهم أن يحبسوا ابن ملجم ويحسنوا إساره، وأنه إن مات قتلوه به قصاصًا، وإن حي فهو ولي دمه‏.‏ كما ذكره ابن جرير، وابن الأثير، وابن كثير وغيرهم في تواريخهم‏.‏

وذكره البيهقي في سننه، وهو المعروف عند الإخباريين‏.‏ ولا شك أن ابن ملجم متأول ـ قبحه الله ـ ولكنه تأويل بعيد فاسد، مورد صاحبه النار، ولما ضرب عليًا رضي الله عنه قال‏:‏ الحكم لله يا علي، لا لك ولا لأصحابك? ومراده أن رضاه بتحكيم الحكمين‏:‏ أبي موسى، وعمرو بن العاص ـ كفر بالله لأن الحكم لله وحده‏.‏ لقوله‏:‏ ‏{‏إن الحكم إلا لله ‏}‏‏.‏

ولما أراد أولاد علي رضي الله عنه أن يتشفوا منه فقطعت يداه ورجلاه لم يجزع، ولا فتر عن الذكر‏.‏ ثم كحلت عيناه وهو في ذلك يذكر الله، وقرأ سورة ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ‏}‏ إلى آخرها، وإن عينيه لتسيلان على خديه‏.‏ ثم حاولوا لسانه ليقطعوه فجزع من ذلك جزعًا شديدًا‏.‏ فقيل له في ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ إني أخاف أن أمكث فواقًا لا أذكر الله ‏(‏ا هـ‏)‏ ذكره ابن كثير وغيره‏.‏

ولأجل هذا قال عمران بن حطان السدوسي يمدح ابن ملجم ـ قبحه الله ـ في قتله أمير المؤمنين عليًا رضي الله عنه‏:‏ يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره يومًا فأحسبه أو في البرية عند الله ميزانا

وجزى الله خيرًا الشاعر الذي يقول في الرد عليه‏:‏ قل لابن ملجم والأقدار غالبة هدمت ويلك للإسلام أركانا

قتلت أفضل من يمشي على قدم وأول الناس إسلامًا وإيمانا

وأعلم الناس بالقرآن ثم بما سن الرسول لنا شرعًا وتبيانا

صهر النَّبي ومولاه وناصره أضحت مناقبه نورًا وبرهانا

وكان منه على رغم الحسود له مكان هارون من موسى بن عمرانا

ذكرت قاتله والدمع منحدر فقلت‏:‏

سبحان رب العرش سبحانا إني لأحسبه ما كان من بشر يخشى المعاد ولكن كان شيطانا

أشقى مراد إذا عدت قبائلها وأخسر الناس عند الله ميزانا

كعاقر الناقة الأولى التي جلبت على ثمود بأرض الحجر خسرانا

قد كان يخبرهم أن سوف يخضبها قبل المنية أزمانا فأزمانا

فلا عفا الله عنه ما تحمله ولا سقى قبر عمران بن حطانا

لقوله في شقي ظل مجترما ونال ما ناله ظلمًا وعدوانا

‏"‏يا ضربة من تقى ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا‏"‏

بل ضربة من غوى أوردته لظى فسوف يلقى بها الرحمن غضبانا

كأنه لم يرد قصدًا بضربته إلا ليصلى عذاب الخلد نيرانا

وبما ذكرنا ـ تعلم أن قتل الحسن بن علي رضوان الله عنه لابن ملجم قبل بلوغ الصِّغار من أولاد علي يقوي حجة من قال بعدم انتظار بلوغ الصغير‏.‏

وحجة من قال أيضًا بكفره قوية‏.‏ للحديث الدال على أنه أشقى الآخرين، مقرونًا بقاتل ناقة صالح المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا‏}‏ وذلك يدل على كفره‏.‏ والعلم عند الله تعالى‏.‏

المسألة الرابعة ـ اعلم أن هذا القتل ظلمًا، الذي جعل الله بسببه هذا السلطان والنصر المذكورين في هذه الآية الكريمة، التي هي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ‏}‏، يثبت بواحد من ثلاثة أشياء‏:‏ اثنان منها متفق عليهما، وواحد مختلف فيه‏.‏

أما الاثنان المتفق على ثبوته بهما‏:‏ فهما الإقرار بالقتل، والبينة الشاهدة عليه‏.‏

وأما الثالث المختلف فيه‏:‏ فهو أيمان القسامة مع وجود اللوث، وهذه أدلة ذلك كله‏.‏

أما الإقرار بالقتل ـ فقد دلت أدلة على لزوم السلطان المذكور في الآية الكريمة به‏.‏ قال البخاري في صحيحه‏:‏ ‏"‏باب إذا أقر بالقتل مرة قتل به‏"‏ حدثني إسحاق، أخبرنا حبان، حدثنا همام، حدثنا قتادة حدثنا أنس بن مالك‏:‏ أن يهوديًا رض رأس جارية بين حجرين‏.‏ فقيل لها‏:‏ من فعل بك هذا‏؟‏ أفلان‏؟‏ أفلان‏؟‏ حتى سمي اليهودي‏.‏ فأومأت برأسها، فجيء باليهودي فاعترف، فأمر به النَّبي صلى الله عليه وسلم فرضَّ رأسه بالحجارة‏.‏ وقد قال همام‏:‏ بحجرين‏.‏

وقد قال البخاري أيضًا‏:‏ ‏(‏باب سؤال القاتل حتى يقر‏)‏ ثم ساق حديث أنس هذا وقال فيه‏:‏ فلم يزل به حتى أقر فرض رأسه بالحجارة‏.‏ وهو دليل صحيح واضح على لزوم السلطان المذكور في الآية الكريمة بإقرار القاتل‏.‏ وحديث أنس هذا أخرجه أيضًا مسلم، وأصحاب السنن، والإمام أحمد‏.‏ ومن الأدلة الدالة على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه‏:‏ حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا أبو يونس عن سماك بن حرب‏:‏ أن علقمة بن وائل حدثه أن أباه حدثه قال‏:‏ إني لقاعدٌ مع النَّبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة فقال‏:‏ يا رسول الله، هذا قتل أخي? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أقتلته‏"‏‏؟‏ فقال‏:‏ إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة‏.‏ قال نعم قتلته‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏كيف قتلته‏؟‏‏"‏ قال كنت‏:‏ أنا وهو نختبط من شجرة‏.‏ فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه فقتلته‏.‏ فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏هل لك من شيء تؤديه عن نفسك‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ ما لي مال إلا كسائي وفأسي‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فترى قومك يشترونك‏"‏ قال‏:‏ أنا أهون على قومي من ذاك? فرمى إليه بنسعته وقال‏:‏ ‏"‏دونك صاحبك‏.‏‏.‏‏"‏ الحديث‏.‏ وفيه الدلالة الواضحة على ثبوت السلطان المذكور في الآية الكريمة بالإقرار‏.‏

ومن الأدلة على ذلك إجماع المسلمين عليه‏.‏ وسيأتي إن شاء الله إيضاح إلزام الإنسان ما أقربه على نفسه في سورة ‏"‏القيامة‏"‏‏.‏

وأما البينة الشاهدة بالقتل عمدًا عدوانًا ـ فقد دل الدليل أيضًا على ثبوت السلطان المذكور في الآية الكريمة بها‏.‏ قال أبو داود في سننه‏:‏ حدثنا الحسن بن علي بن راشد، أخبرنا هشيم، عن أبي حيان التيمي، ثنا عباية بن رفاعة، عن رافع بن خديج قال‏:‏ أصبح رجل من الأنصار مقتولًا بخيبر‏.‏ فانطلق أولياؤه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال‏:‏ ‏"‏لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم‏"‏‏؟‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، لم يكن ثمَّ أحد من المسلمين، وإنما هم يهود? وقد يجترئون على أعظم من هذا، قال‏:‏ ‏"‏فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم فأبوا‏.‏ فوداه النَّبي صلى الله عليه وسلم من عنده اهـ‏"‏‏.‏

فقول النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث‏:‏ ‏"‏لكم شاهدان على قتل صاحبكم‏"‏‏.‏ فيه دليل واضح على ثبوت السلطان المذكور في الآية بشهادة شاهدين على القتل‏.‏

وهذا الحديث سكت عليه أبو داود، والمنذري‏.‏ ومعلوم أن رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح‏.‏ إلا الحسن بن علي بن راشد وقد وثق‏.‏ وقال فيه ابن حجر في ‏"‏التقريب‏"‏‏:‏ صدوق رمي بشيء من التدليس‏.‏

وقال النسائي في سننه‏:‏ أخبرنا محمد بن معمر قال‏:‏ حدثنا روح بن عبادة، قال‏:‏ حدثنا عبيد الله بن الأخنس، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏:‏ أن ابن محيصةَ الأصغر أصبح قتيلًا على أبواب خيبر‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته‏"‏ قال‏:‏ يا رسول الله، ومن أين أصيب شاهدين، وإنما أصبح قتيلًا على أبوابهم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فتحلف خمسين قسامة‏"‏ قال‏:‏ يا رسول الله، وكيف أحلف على ما لا أعلم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فنستحلف منهم خمسين قسامةً‏"‏ فقال‏:‏ يا رسول الله، كيف نستحلفهم وهم اليهود فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته عليهم وأعانهم بنصفها اهـ‏.‏

فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث‏:‏ ‏"‏أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته‏"‏ ـ دليل واضح على ثبوت السلطان المذكور في الآية الكريمة بشهادة شاهدين‏.‏ وأقل درجات هذا الحديث الحسن‏.‏ وقال فيه ابن حجر في ‏"‏الفتح‏"‏‏:‏ هذا السند صحيح حسن‏.‏

ومن الأدلة الدالة على ذلك ـ إجماع المسلمين على ثبوت القصاص بشهادة عدلين على القتل عمدًا عدوانًا‏.‏

وقد قدمنا قول من قال من العلماء‏:‏ إن أخبار الآحاد تعتضد بموافقة الإجماع لها حتى تصير قطعية كالمتواتر، لاعتضادها بالمعصوم وهو إجماع المسلمين‏.‏

وأكثر أهل الأصول يقولون‏:‏ إن اعتضاد خبر الآحاد بالإجماع لا يصيره قطعيًا‏.‏ وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود في مبحث أخبار الآحاد‏:‏ ولا يفيد القطع ما يوافق الـ إجماع والبعض بقطع ينطق

وبعضهم يفيد حيث عولا عليه وانفه إذا ما قد خلا

مع دواعي رده من مبطل كما يدل لخلافة علي

وقوله‏:‏

وانفه إذا ما قد خلا‏.‏‏.‏ الخ ـ مسألة أخرى غير التي نحن بصددها‏.‏ وإنما ذكرناها لارتباط بعض الأبيات ببعض‏.‏

وأما أيمان القسامة مع وجود اللوث ـ فقد قال بعض أهل العلم بوجوب القصاص بها‏.‏ وخالف في ذلك بعضهم‏.‏

فممن قال بوجوب القود بالقسامة‏:‏ مالك وأصحابه، وأحمد، وهو أحد قولي الشافعي، وروي عن ابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز‏.‏ والظاهر أن عمر بن عبد العزيز رجع عنه‏.‏

وبه قال أبو ثور، وابن المنذر، وهو قول الزهري، وربيعة، وأبي الزناد، والليث، والأزواعي، وإسحاق، وداود‏.‏

وقضى بالقتل بالقسامة عبد الملك بن مروان، وأبوه مروان‏.‏ وقال أبو الزناد‏:‏ قلنا بها وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان‏.‏

وقال ابن حجر ‏(‏في فتح الباري‏)‏‏.‏ إنما نقل ذلك أبو الزناد عن خارجة وروي بن زيد بن ثابت‏.‏ كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، وإلا فأبو الزناد لا يثبت أنه رأى عشرين من الصحابة فضلًا عن ألف‏.‏

وممن قال بأن القسامة تجب بها الدية ولا يجب بها القود‏:‏ الشافعي في أصح قوليه، وهو مذهب أبي حنيفة، وروى عن أبي بكر وعمر وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم‏.‏ وهو مروي عن الحسن البصري، والشعبي، والنخعي، وعثمان البتي، والحسن بن صالح، وغيرهم‏.‏ وعن معاوية‏:‏ القتل بها أيضًا‏.‏

وذهبت جماعة أخرى إلى أن القسامة لا يثبت بها حكم من قصاص ولا دية‏.‏ وهذا مذهب الحكم بن عتيبة، وأبي قلابة، وسالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار، وقتادة، ومسلم بن خالد، وإبراهيم بن علية‏.‏ وإليه بنحو البخاري، وروي عن عمر بن عبد العزيز باختلاف عنه‏.‏

وروي عن عبد الملك بن مروان أنه ندم على قتله رجلًا بالقسامة، ومحا أسماء الذين حلفوا أيمانهم من الديوان، وسيرهم إلى الشام‏.‏ قاله البخاري في صحيحه‏.‏

فإذا عرفت أقوال لهم أهل العلم في القسامة فدونك أدلتهم على أقوالهم في هذه المسألة‏:‏

أما الذين قالوا بالقصاص بالقسامة فاستدلوا على ذلك بما ثبت في بعض روايات حديث سهل بن أبي حثمة في صحيح مسلم وغيره‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قتل عبد الله بن سهل الأنصاري بخيبر، مخاطبًا لأولياء المقتول‏:‏ ‏"‏يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته‏.‏‏.‏‏"‏ الحديث‏.‏ فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الثابت في صحيح مسلم وغيره ‏"‏فيدفع برمته‏"‏ معناه‏:‏ أنه يسلم لهم ليقتلوه بصاحبهم‏.‏ وهو نص صحيح صريح في القود بالقسامة‏.‏

ومن أدلتهم على ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند النسائي الذي قدمناه قريبًا‏.‏ وقد قدمنا عن ابن حجر أنه قال فيه‏:‏ صحيح حسن‏.‏ فقول النَّبي صلى الله عليه وسلم فيه‏:‏ ‏"‏أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته‏"‏ صريح أيضًا في القود بالقسامة‏.‏ وادعاء أن معنى دفعه إليهم برمته‏:‏ أي ليأخذوا منه الدية ـ بعيد جدًا كما ترى‏.‏

ومن أدلتهم ما ثبت في رواية متفق عليها في حديث سهل المذكور‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأولياء المقتول‏:‏ ‏"‏تحلفون خمسين يمينًا وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم‏.‏‏.‏‏"‏ الحديث‏.‏ قالوا‏:‏ فعلى أن الرواية ‏"‏قاتلكم‏"‏ فهي صريح في القود بالقسامة‏.‏ وعلى أنها ‏"‏صاحبكم‏"‏ فهي محتملة لذلك احتمالًا قويًا‏.‏ وأجيب من جهة المخالف بأن هذه الرواية لا يصح الاحتجاج بها للشك في اللفظ الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولو فرضنا أن لفظ الحديث في نفس الأمر ‏"‏صاحبكم‏"‏ لاحتمل أن يكون المراد به المقتول، وأن المعنى‏:‏ تستحقون ديته‏.‏ والاحتمال المساوي يبطل الاستدلال كما هو معروف في الأصول‏.‏ لأن مساواة الاحتمالين يصير بها اللفظ مجملًا، والمجمل يجب التوقف عنه حتى يرد دليل مبين للمراد منه‏.‏

ومن أدلتهم ما جاء في رواية عند الإمام أحمد‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينًا ثم تسلمه‏"‏‏.‏

ومن أدلتهم ما جاء في رواية عند مسلم وغيره‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم‏"‏ قالوا‏:‏ معنى ‏"‏دم صاحبكم‏"‏ قتل القاتل‏.‏

وأجيب من جهة المخالف باحتمال أن المراد ‏"‏بدم صاحبكم‏"‏ الدية، وهو احتمال قوي أيضًا‏.‏ لأن العرب تطلق الدم على الدية‏.‏ ومنه قوله‏:‏ أكلت دمًا إن لم أرعك بضرة بعيدة مهوى القرط طيبة النشر

ومن أدلتهم ما رواه أبو داود في سننه‏:‏ حدثنا محمود بن خالد وكثير بن عبيد قالا‏:‏ حدثنا الوليد ‏(‏ح‏)‏ وحدثنا محمد بن الصباح بن سفيان، أخبرنا الوليد عن أبي عمرو، عن عمرو بن شعيب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏أنه قتل بالقسامة رجلًا من بني نصر بن مالك ببحرة الرغاة على شط لِيَّة البحرة قال القائل والمقتول منهم‏.‏ وهذا لفظ محمود ببحرة أقامه محمود وحده على شط لية اهـ وانقطاع سند هذا الحديث واضح في قوله‏:‏ ‏"‏عن عمرو بن شعيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏"‏ كما ترى‏.‏ وقد ساق البيهقي في السنن الكبرى حديث أبي داود هذا وقال‏:‏ هذا منقطع، ثم قال‏:‏ وروى أبو داود أيضًا في المراسيل عن موسى بن إسماعيل، عن حماد عن قتادة، وعامر الأحول عن أبي المغيرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏أقاد بالقسامة الطائف‏"‏ وهو أيضًا منقطع‏.‏ وروى البيهقي في سننه عن أبي الزناد قال‏:‏ أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، أن رجلًا من الأنصار قتل وهو سكران رجلًا ضربه بشويق، ولم يكن على ذلك بينة قاطعة إلا لطخ أو شبيه ذلك، وفي الناس يومئذ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن فقهاء الناس ما لا يحصى، وما اختلف اثنان منهم أن يحلف ولاة المقتول ويقتلوا أو يستحيوا‏.‏ فحلفوا خمسين يمينًا وقتلوا، وكانوا يخبرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالقسامة، ويرونها للذي يأتي به من اللطخ أو الشبهة أقوى مما يأتي به خصمه، ورأوا ذلك في الصهيبي حين قتله الحاطبيون وفي غيره‏.‏ ورواه ابن وهب عن أبي الزناد وزاد فيه‏:‏ أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص‏:‏ إن كان ما ذكرنا له حقًا أن يحلفنا على القاتل ثم يسلمه إلينا‏.‏

وقال البيهقي في سننه أيضًا‏:‏ أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، ثنا أبو العباس الأصم، ثنا بحر بن نصر، ثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد‏:‏ أن هشام بن عروة أخبره‏:‏ أن رجلًا من آل حاطب بن أبي بلتعة كانت بينه وبين رجل من آل صهيب منازعة‏.‏‏.‏ فذكر الحديث في قتله قال‏:‏ فركب يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب إلى عبد الملك بن مروان في ذلك‏.‏ فقضى بالقسامة على ستة نفر من آل حاطب، فثنى عليهم الأيمان، فطلب آل حاطب أن يحلفوا على اثنين ويقتلوهما‏.‏ فأبى عبد الملك إلا أن يحلفوا على واحد فيقتلوه‏.‏ فحلفوا على الصهيبي فقتلوه‏.‏ قال هشام‏:‏ فلم ينكر ذلك عروة، ورأى أن قد أصيب فيه الحق، وروينا فيه عن الزهري وربيعة‏.‏

ويذكر عن ابن أبي مليكة عن عمر بن عبد العزيز وابن الزبير‏:‏ أنهما أقادا بالقسامة‏.‏

ويذكر عن عمر بن عبد العزيز أنه رجع عن ذلك وقال‏:‏ إن وجد أصحابه بينة وإلا فلا تظلم الناس‏.‏ فإن هذا لا يقضى فيه إلى يوم القيامة ـ انتهى كلام البيهقي رحمه الله‏.‏

هذه هي أدلة من أوجب القود بالقسامة‏.‏

وأما حجج من قال‏:‏ لا يجب بها إلا الدية ـ فمنها ما ثبت في بعض روايات حديث سهل المذكور عند مسلم وغيره‏:‏

أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب‏"‏‏.‏

قال النووي في شرح مسلم‏:‏ معناه إن ثبت القتل عليهم بقسامتكم فإما أن يدوا صاحبكم ـ أي يدفعوا إليكم ديته ـ وإما أن يعلمونا أنهم ممتنعون من التزام أحكامنا‏.‏ فينتقض عهدهم، ويصيرون حربًا لنا‏.‏

وفيه دليل لمن يقول‏:‏ الواجب بالقسامة الدية دون القصاص اهـ كلام النووي، رحمه الله‏.‏

ومنها ما ثبت في بعض روايات الحديث المذكور في صحيح البخاري وغيره‏:‏ أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أفتسحقون الدية بأيمان خمسين منكم‏"‏ قالوا‏:‏ هذه الرواية الثابتة في صحيح البخاري صريحة في أن المستحق بأيمان القسامة إنما هو الدية لا القصاص‏.‏

ومن أدلتهم أيضًا ما ذكره الحافظ ‏(‏في فتح الباري‏)‏ قال‏:‏ وتمسك من قال‏:‏ لا يجب فيها إلا الدية بما أخرجه الثوري في جامعه، وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور بسند صحيح إلى الشعبي قال‏:‏ وجد قتيل بين حيين من العرب فقال عمر‏:‏ قيسوا ما بينهما فأيهما وجدتموه إليه أقرب فأحلفوهم خمسين يمينًا، وأغرموهم الدية‏.‏ وأخرجه الشافعي عن سفيان بن عيينة، عن منصور، عن الشعبي‏:‏ أن عمر كتب في قتيل وجد بين خيران وداعة أن يقاس ما بين القريتين‏.‏ فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليه منها خمسون رجلًا حتى يوافوه في مكة، فأدخلهم الحجر فأحلفهم، ثم قضى عليهم الدية‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏حقنتم بأيمانكم دماءكم، ولا يطل دم رجل مسلم‏"‏‏.‏

قال الشافعي‏:‏ إنما أخذه الشعبي عن الحارث الأعور، والحارث غير مقبول‏.‏ انتهى‏.‏ وله شاهد مرفوع من حديث أبي سعيد عند أحمد‏:‏ أن قتيلًا وجد بين حيين فأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏أن يقاس إلى أيهما أقرب فألقى ديته على الأقرب‏"‏ ولكن سنده ضعيف‏.‏

وقال عبد الرزاق في مصنفه‏:‏ عن معمر قال‏:‏ قلت لعبد الله بن عمر العمري‏:‏ أعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة‏؟‏ قال‏:‏ لا، قلت‏:‏ فأبو بكر‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قلت‏:‏ فعمر‏؟‏ قال لا‏.‏ قلت‏:‏ فكيف تجترؤون عليها‏؟‏ فسكت‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وأخرج البيهقي من طريق القاسم بن عبد الرحمن‏:‏ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ في القسامة‏:‏ توجب العقل ولا تسقط الدم‏.‏ انتهى كلام ابن حجر رحمه الله‏.‏

وأما حجة من قال‏:‏ إن القسامة لا يلزم بها حكم ـ فهي أن الذين يحلفون أيمان القسامة إنما يحلفون على شيء لم يحضروه، ولم يعلموا أحق هو أم باطل، وحلف الإنسان على شيء لم يره دليل على أنه كاذب‏.‏

قال البخاري في صحيحه‏:‏ حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، حدثنا الحجاج بن أبي عثمان، حدثنا أبو رجاء من آل أبي قلابة، حدثني أبو قلابة‏:‏ أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يومًا للناس، ثم أذن لهم فدخلوا، فقال‏:‏ ما تقولون في القسامة‏؟‏ قال‏:‏ نقول القسامة القود بها حق، وقد أقادت بها الخلفاء‏.‏ قال لي‏:‏ ما تقول يا أبا قلابة‏؟‏ ونصبني للناس‏.‏ فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين، عندك رؤوس الأجناد وأشراف العرب? أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى لم يروه، أكنت ترجمه‏؟‏ قال لا‏.‏ قلت‏:‏ أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجلٍ بحمص أنه سرق، أكنت تقطعه ولم يروه‏؟‏ قال لا‏.‏ قلت‏:‏ فو الله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا قط إلا في إحدى ثلاث خصال‏:‏ رجل قتل بجريرة نفسه فقتل أو رجل زنى بعد إحصان‏.‏ أو رجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام‏.‏‏.‏ إلى آخر حديثه‏.‏

ومراد أبي قلابة واضح، وهو أنه كيف يقتل بأيمان قوم يحلفون على شيء لم يروه ولم يحضروه?

هذا هو حاصل كلام أهل العلم في القود بالقسامة، وهذه حججهم‏.‏

قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ أظهر الأقوال عندي دليلًا ـ القود بالقسامة‏.‏

لأن الرواية الصحيحة التي قدمنا فيها أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إنهم إن حلفوا أيمان القسامة دفع القاتل برمته إليهم‏"‏ وهذا معناه القتل بالقسامة كما لا يخفى‏.‏ ولم يثبت ما يعارض هذا‏.‏ والقسامة أصل وردت به السنة، فلا يصح قياسه على غيره من رجم أو قطع‏.‏ كما ذهب إليه أبو قلابة في كلامه المار آنفًا‏.‏ لأن القسامة أصل من أصول الشرع مستقل بنفسه‏.‏ شرع لحياة الناس وردع المعتدين، ولم تمكن فيه أولياء المقتول من أيمان القسامة إلا مع حصول لوث يغلب على الظن به صدقهم في ذلك‏.‏

تنبيه

اعلم ـ أن رواية سعيد بن عبيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة التي فيها‏:‏ أن النَّبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏لما سأل أولياء المقتول هل لهم بينة‏"‏ وأخبروه بأنهم ليس لهم بينة قال‏:‏ ‏"‏يحلفون‏"‏ يعني اليهود المدعى عليهم، وليس فيها ذكر حلف أولياء المقتول أصلًا ـ لا دليل فيها لمن نفى القود بالقسامة‏.‏ لأن سعيد بن عبيد وهم فيها، فأسقط من السياق تبدئة المدعين باليمين‏.‏ لكونه لم يذكر في روايته رد اليمين‏.‏ ورواه يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار فذكر أن النَّبي صلى الله عليه وسلم عرض الأيمان أولًا على أولياء المقتول، فلما أبوأ عرض عليهم رد الأيمان على المدعى عليهم‏.‏ فاشتملت رواية يحيى بن سعيد على زيادة من ثقة حافظ فوجب قبولها‏.‏ وقد ذكر البخاري رحمه الله رواية سعيد بن عبيد ‏(‏في باب القسامة‏)‏، وذكر رواية يحيى بن سعيد ‏(‏في باب الموادعة والمصالحة مع المشركين‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏)‏ وفيها‏:‏ ‏"‏تحلفون وتستحقون قاتلكم‏"‏ أو صاحبكم الحديث‏.‏ والخطاب في قوله ‏"‏تحلفون وتستحقون، لأولياء المقتول‏"‏‏.‏

وجزم بما ذكرنا من تقديم رواية يحيى بن سعيد المذكورة على رواية سعيد بن عبيد ـ ابن حجر في الفتح وغير واحد‏.‏ لأنها زيادة من ثقة حافظ لم يعارضها غيرها فيجب قبولها‏.‏ كما هو مقرر في علم الحديث وعلم الأصول‏.‏

وقال القرطبي في تفسيره في الكلام على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا‏}‏‏:‏ وقد أسند حديث سهل أن النَّبي صلى الله عليه وسلم بدأ المدعين‏:‏ يحيى بن سعيد، وابن عيينة، وحماد بن زيد، وعبد الوهاب الثقفي، وعيسى بن حماد، وبشر بن المفضل‏.‏ فهؤلاء سبعة‏.‏ وإن كان أرسله مالك فقد وصله جماعة الحفاظ، وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد‏.‏

وقال مالك رحمه الله ‏(‏في الموطإ‏)‏ بعد أن ساق رواية يحيى بن سعيد المذكورة‏:‏ الأمر المجتمع عليه عندنا، والذي سمعته ممن أرضى في القسامة، والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث‏:‏ أن يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة فيحلفون اهـ محل الغرض منه‏.‏

واعلم أن العلماء أجمعوا على أن القسامة يشترط لها لوث، ولكنهم اختلفوا في تعيين اللوث الذي تحلف معه أيمان القسامة‏.‏ فذهب مالك رحمه الله إلى أنه أحد أمرين‏:‏

الأول ـ أن يقول المقتول‏:‏ دمي عند فلان‏.‏ وهل يكفي شاهد واحد على قوله ذلك، أو لا بد من اثنين‏؟‏ خلاف عندهم‏.‏

والثاني ـ أن تشهد بذلك بينة لا يثبت بها القتل كاثنين غير عدلين‏.‏

قال مالك في الموطإ‏:‏ الأمر المجتمع عليه عندنا والذي سمعته ممن أَرْضَى في القسامة والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث ـ أن يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة فيحلفون، وأن القسامة لا تجب إلا بأحد أمرين‏:‏ إما أن يقول المقتول دمي عند فلان، أو يأتي ولاة الدم بلوث من بينة وإن لم تكن قاطعة على الذي يدعى عليه الدم‏.‏ فهذا يوجب القسامة لمدعي الدم على من ادعوه عليه‏.‏ ولا تجب القسامة عندنا إلا بأحد هذين الوجهين ـ اهـ محل الغرض منه، هكذا قال في الموطإ، وستأتي زيادة عليه إن شاء الله‏.‏

واعلم أن كثيرًا من أهل العلم أنكروا على مالك رحمه الله إيجابه القسامة بقول المقتول قتلني فلان‏.‏

قالوا‏:‏ هذا قتل مؤمن بالأيمان على دعوى مجردة‏.‏

واحتج مالك رحمه الله بأمرين‏:‏

الأول ـ أن المعروف من طبع الناس عند حضور الموت‏:‏ الإنابة والتوبة والندم على ما سلف من العمل السيء‏.‏ وقد دلت على ذلك آيات قرآنية‏.‏ كقوله ‏{‏وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

فهذا معهود من طبع الإنسان، ولا يعلم من عادته أن يدع قاتله ويعدل إلى غيره، وما خرج عن هذا نادر في الناس لا حكم له‏.‏

الأمر الثاني ـ أن قصة قتيل بني إسرائيل تدل على اعتبار قول المقتول دمي عند فلان‏.‏ فقد استدل مالك بقصة القتيل المذكور على صحة القول بالقسامة بقوله قتلني فلان، أو دمي عند فلان ـ في رواية ابن وهب وابن القاسم‏.‏

ورد المخالفون هذا الاستدلال بأن إحياء معجزة لنبي الله موسى، وقد أخبر الله تعالى أنه يحييه، وذلك يتضمن الإخبار بقاتله خبرًا جزمًا لا يدخله احتمال ـ فافترقا‏.‏

ورد ابن العربي المالكي هذا الاعتراض بأن المعجزة إنما كانت في إحياء المقتول، فلما صار حيًا كان كلامه كسائر كلام الناس كلهم في القبول والرد‏.‏

قال‏:‏ وهذا فن دقيق من العلم لم يتفطن له إلا مالك، وليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقه‏.‏ فلعله أمرهم بالقسامة معه اهـ كلام ابن العربي‏.‏ وهو غير ظاهر عندي‏.‏ لأن سياق القرآن يقتضي أن القتيل إذا ضرب ببعض البقرة وحيي أخبرهم بقاتله، فانقطع بذلك النزاع المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا‏}‏‏.‏ فالغرض الأساسي من ذبح البقرة قطع النزاع بمعرفة القاتل بإخبار المقتول إذا ضرب ببعضها فحيي والله تعالى أعلم‏.‏ والشاهد العدل لوث عند مالك في رواية ابن القاسم‏.‏ وروى أشهب عن مالك‏:‏ أنه يقسم مع الشاهد غير العدل ومع المرأة وروى ابن وهب‏:‏ أن شهادة النساء لوث‏.‏ وذكر محمد عن ابن القاسم‏:‏ أن شهادة المرأتين لوث‏.‏ دون شهادة المرأة الواحدة‏.‏

وقال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ اختلف في اللوث اختلافًا كثيرًا‏.‏ ومشهور مذهب مالك‏:‏ أنه الشاهد العدل‏.‏ وقال محمد‏:‏ هو أحب إلي، قال‏:‏ وأخذ به ابن القاسم وابن عبد الحكم‏.‏

وممن أوجب القسامة بقوله دمي عند فلان‏:‏ الليث بن سعد وروي عن عبد الملك بن مروان‏.‏

والذين قالوا بالقسامة بقول المقتول دمي عند فلان، منهم من يقول‏:‏ يشترط في ذلك أن يكون به جراح‏.‏ ومنهم من أطلق‏.‏

والذي به الحكم وعليه العمل عند المالكية‏:‏ أنه لا بد في ذلك من أثر جرح أو ضرب بالمقتول، ولا يقبل قوله بدون وجود أثر الضرب‏.‏

واعلم أنه بقيت صورتان من صور القسامة عند مالك‏.‏

الأولى ـ أن يشهد عدلان بالضرب، ثم يعيش المضروب بعده أيامًا ثم يموت منه من غير تخلل إفاقة‏.‏ وبه قال الليث أيضًا‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ يجب في هذه الصورة القصاص بتلك الشهادة على الضرب‏.‏ وهو مروي أيضًا عن أبي حنيفة‏.‏

الثانية ـ أن يوجد مقتول وعنده أو بالقرب منه من بيده آلة القتل، وعليه أثر الدم مثلًا، ولا يوجد غيره فتشرع القسامة عند مالك‏.‏ وبه قال الشافعي‏.‏ ويلحق بهذا أن تفترق جماعة من قتيل‏.‏ وفي رواية عن مالك في القتيل يوجد بين طائفتين مقتتلتين‏:‏ أن القسامة على الطائفة التي ليس منها القتيل إن كان من إحدى الطائفتين‏.‏

أما إن كان من غيرهما فالقسامة عليهما‏.‏ والجمهور على أن القسامة عليهما معًا مطلقًا‏.‏ قاله ابن حجر في الفتح‏.‏

وأما اللوث الذي تجب به القسامة عند الإمام أبي حنيفة فهو أن يوجد قتيل في محلة أو قبيلة لم يدر قاتله، فيحلف خمسون رجلًا من أهل تلك المحلة التي وجد بها القتيل يتخيرهم الولي ـ ما قتلناه ولا علمنا له قاتلًا‏.‏ ثم إذا حلفوا غرم أهل المحلة الدية ولا يحلف الولي، وليس في مذهب أبي حنيفة رحمه الله قسامة إلا بهذه الصورة‏.‏

وممن قال بأن وجود القتيل بمحلة لوث يوجب القسامة‏:‏ الثوري والأوزاعي‏.‏ وشرط هذا عند القائلين به إلا الحنفية‏:‏ أن يوجد بالقتل أثر‏.‏ وجمهور أهل العلم على أن وجود القتيل بمحلة لا يوجب القسامة، بل يكون هدرًا لأنه قد يقتل ويلقى في المحلة لتلصق بهم التهمة‏.‏ وهذا ما لم يكونوا أعداء للمقتول ولم يخالطهم غيرهم وإلا وجبت القسامة‏.‏ كقصة اليهود مع الأنصاري‏.‏

وأما الشافعي رحمه الله فإن القسامة تجب عنده بشهادة من لا يثبت القتل بشهادته‏.‏ كالواحد أو جماعة غير عدول‏.‏ وكذلك تجب عنده بوجود المقتول يتشحط في دمه، وعنده أو بالقرب منه من بيده آلة القتل وعليه أثر الدم مثلًا ولا يوجد غيره، ويلحق به افتراق الجماعة عن قتيل‏.‏

وقد قدمنا قول الجمهور في القتيل يوجد بين الطائفتين المقتتلتين‏.‏ والذي يظهر لي أنه إن كان من إحدى الطائفتين المقتتلتين‏:‏ أن القسامة فيه تكون على الطائفة الأخرى دون طائفته التي هو منها وكذلك تجب عنده فيما كقصة اليهودي مع الأنصاري‏.‏

واما الإمام أحمد فاللوث الذي تجب به القسامة عنده فيه روايتان‏.‏

الأولى ـ أن اللوث هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه، كنحو ما بين الأنصار واليهود، وما بين القبائل والأحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب وما جرى مجرى ذلك‏.‏ ولا يشترط عنده على الصحيح ألا يخالطهم غيرهم ـ نص على ذلك الإمام أحمد في رواية مهنأ‏.‏ واشترط القاضي ألا يخالطهم غيرهم كمذهب الشافعي‏.‏ قاله في المغني‏.‏

والرواية الثانية عن أحمد رحمه الله ـ أن اللوث هو ما يغلب به على الظن صدق المدعي، وذلك من وجوه‏.‏

أحدها‏:‏ العداوة المذكورة‏.‏

والثاني‏:‏ أن يتفرق جماعة عن قتيل فيكون ذلك لوثًا في حق كل واحد منهم‏.‏ فإن ادعى الولي على واحد فأنكر كونه مع الجماعة فالقول قوله مع يمينه ـ ذكره القاضي، وهو مذهب الشافعي‏.‏

والثالث‏:‏ أن يوجد المقتول ويوجد بقربه رجل معه سكين أو سيف ملطخ بالدم، ولا يوجد غيره‏.‏

الرابع‏:‏ أن تقتتل فئتان فيفترقون عن قتيل من إحداهما، فاللوث على الأخرى‏.‏ ذكره القاضي‏.‏ فإن كانوا بحيث لا تصل سهام بعضهم بعضًا فاللوث على طائفة القتيل‏.‏ وهذا قول الشافعي‏.‏ وروي عن أحمد‏:‏ أن عقل القتيل على الذين نازعوهم فيما إذا اقتتلت الفئتان إلا أن يدعوا على واحد بعينه‏.‏ وهذا قول مالك‏.‏ وقال ابن أبي ليلى‏:‏ على الفريقين جميعًا، لأنه يحتمل أنه مات من فعل أصحابه فاستوى الجميع فيه‏.‏ وقد قدمنا عن ابن حجر أن هذا قول الجمهور‏.‏

الخامس‏:‏ أن يشهد بالقتل عبيد ونساء‏.‏ فعن أحمد هو لوث لأنه يغلب على الظن صدق المدعي‏.‏ وعنه ليس بلوث، لأنها شهادة مردودة فلم يكن لها أثر‏.‏

فأما القتيل الذي يوجد في الزحام كالذي يموت من الزحام يوم الجمعة أو عند الجمرة ـ فظاهر كلام أحمد أن ذلك ليس بلوث، فإنه قال فيمن مات بالزحام يوم الجمعة‏:‏ ديته في بيت المال‏.‏ وهذا قول إسحاق، وروي عن عمر وعلي، فإن سعيدًا روى في سننه عن إبراهيم قال‏:‏ قتل رجل في زحام الناس بعرفة‏.‏ فجاء أهله إلى عمر فقال بينتكم على من قتله‏؟‏ فقال علي‏:‏ يا أمير المؤمنين، لا يطل دم امرىء مسلم إن علمت قاتله، وإلا فأعطهم ديته من بيت المال‏.‏

انتهى من المغني‏.‏

وقد قال ابن حجر في الفتح ‏(‏في باب إذا مات في الزحام أو قتل‏)‏ في الكلام على قتل المسلمين يوم أحد اليمان والد حذيفة رضي الله عنهما ما نصه‏:‏ وحجته ‏(‏يعني إعطاء ديته من بيت المال‏)‏ ما ورد في بعض طرق قصة حذيفة، وهو ما أخرجه أبو العباس السراج في تاريخه من طريق عكرمة‏:‏ أن والد حذيفة قتل يوم أحد بعض المسلمين وهو يظن أنه من المشركين، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجاله ثقات مع إرساله‏.‏ وقد تقدم له شاهد مرسل أيضًا ‏(‏في باب العفو عن الخطأ‏)‏ وروى مسدد في مسنده من طريق يزيد بن مذكور‏:‏ أن رجلًا زحم يوم الجمعة فمات فوداه علي من بيت المال‏.‏

وفي المسألة مذاهب أخرى ‏(‏منها‏)‏ قول الحسن البصري‏:‏ أن ديته تجب على جميع من حضر، وهو أخص من الذي قبله‏.‏ وتوجيهه‏:‏ أنه مات بفعلهم فلا يتعداهم إلى غيرهم‏.‏ ‏(‏ومنها‏)‏ قول الشافعي ومن تبعه‏:‏ أنه يقال لوليه ادَّعِ على من شئت واحلف‏.‏ فإن حلفت استحققت الدية، وإن نكلت حلف المدعى عليه على النفي وسقطت المطالبة‏.‏ وتوجيهه‏:‏ أن الدم لا يجب إلا بالطلب‏.‏

‏(‏ومنها‏)‏ قول مالك‏:‏ دمه هدر‏.‏ وتوجيهه‏:‏ أنه إذا لم يعلم قائله بعينه استحال أن يؤخذ به أحد‏.‏ وقد تقدمت الإشارة إلى الراجح من هذه المذاهب ‏(‏في باب العفو عن الخطأ‏)‏ ـ انتهى كلام ابن حجر رحمه الله‏.‏

والترجيح السابق الذي أشار له هو قوله في قول حذيفة رضي الله عنه مخاطبًا للمسلمين الذين قتلوا أباه خطأ‏:‏ ‏"‏غفر الله لكم‏"‏ استدل به من قال‏:‏ إن ديته وجبت على من حضر‏.‏ لأن معنى قوله ‏"‏غفر الله لكم‏"‏ عفوت عنكم، وهو لا يعفو إلا عن شيء استحق أن يطالب به‏.‏ انتهى محل الغرض منه‏.‏ فكأن ابن حجر يميل إلى ترجيح قول الحسن البصري رحمه الله‏.‏

قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ أظهر الأقوال عندي في اللوث الذي تجب القسامة به‏:‏ أنه كل ما يغلب به على الظن صدق أولياء المقتول في دعواهم‏.‏ لأن جانبهم يترجح بذلك فيحلفون معه‏.‏ وقد تقرر في الأصول ‏"‏أن المعتبر في الروايات والشهادات ما تحصل به غلبة الظن‏"‏ وعقده صاحب مراقي السعود بقوله في شروط الراوي‏:‏ بغالب الظن يدور المعتبر فاعتبر الإسلام من غبر ـ الخ

فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول ـ لا يحلف النساء ولا الصبيان في القسامة، وإنما يحلف فيها الرجال‏.‏ وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد، والثوري والأوزاعي وربيعة والليث، ووافقهم مالك في قسامة العمد، وأجاز حلف النساء الوارثات في قسامة الخطإ خاصة‏.‏ وأما الصبي فلا خلاف بين العلماء في أنه لا يحلف أيمان القسامة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ يحلف في القسامة كل وارث بالغ ذكرًا كان أو أنثى، عمدًا كان أو خطأ‏.‏

واحتج القائلون بأنه لا يحلف إلا الرجال بأن في بعض روايات الحديث في القسامة يقسم خمسون رجلًا منكم‏.‏ قالوا‏:‏ ويفهم منه أن غير الرجال لا يقسم‏.‏

واحتج الشافعي ومن وافقه بقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏تحلفون خمسين يمينًا فتستحقون دم صاحبكم‏"‏ فجعل الحالف هو المستحق للدية والقصاص‏.‏ ومعلوم أن غير الوارث لا يستحق شيئًا ـ فدل على أن المراد حلف من يستحق الدية‏.‏

وأجاب الشافعية عن حجة الأولين بما قاله النووي في شرح مسلم‏.‏ فإنه قال في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يقسم خمسون منكم على رجل منهم‏"‏ ما نصه‏:‏ هذا مما يجب تأويله‏.‏ لأن اليمين إنما تكون على الوارث خاصة لا على غيره من القبيلة‏.‏ وتأويله عند أصحابنا‏:‏ أن معناه يؤخذ منكم خمسون يمينًا والحالف هم الورثة، فلا يحلف أحد من الأقارب غير الورثة، يحلف كل الورثة ذكورًا كانوا أو إناثًا، سواء كان القتل عمدًا أو خطأ ـ هذا مذهب الشافعي، وبه قال أبو ثور وابن المنذر‏.‏ ووافقنا مالك فيما إذا كان القتل خطأ، وأما في العمد فقال‏:‏ يحلف الأقارب خمسين يمينًا‏.‏ ولا تحلف النساء ولا الصبيان‏.‏ ووافقه ربيعة والليث، والأوزاعي وأحمد وداود وأهل الظاهر ـ انتهى الغرض من كلام النووي رحمه الله‏.‏

ومعلوم أن هذا التأويل الذي أولوا به الحديث بعيد من ظاهر اللفظ، ولا سيما على الرواية التي تصرح بتمييز الخمسين بالرجل عند أبي داود وغيره‏.‏

الفرع الثاني ـ قد علمت أن المبدأ بأيمان القسامة أولياء الدم على التحقيق كما تقدم إيضاحه‏.‏ فإن حلفوا استحقوا القود أو الدية على الخلاف المتقدم‏.‏ وإن نكلوا ردت الأيمان على المدعى عليهم‏.‏ فإن حلفوها برؤوا عند الجمهور، وهو الظاهر لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم‏"‏ أي يبرؤون منكم بذلك‏.‏ وهذا قول مالك والشافعي، والرواية المشهورة عن أحمد، وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة وأبو الزناد والليث وأبو ثور، كما نقله عنهم صاحب المغني‏.‏